
قبل تشكيلها في 17 مايو الجاري، كان هناك الكثير من الحديث حول الحاجة لإنشاء هيئة للعدالة الانتقالية في الأوساط السورية. كان هذا الأمر يتردد بشكل متكرر في الصحف ووسائل الإعلام، فضلاً عن منصات التواصل الاجتماعي، وذلك في أعقاب سلسلة الجرائم التي ارتكبها النظام السوري، مثل استخدام الأسلحة الكيميائية واستهداف المدنيين، بالإضافة إلى قضايا الإخفاء القسري واكتشاف المقابر الجماعية من وقت لآخر.
حسب “المركز الدولي للعدالة الانتقالية”، فإن مفهوم “العدالة الانتقالية” يُنظر إليه كاستجابة للمجتمعات تجاه إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
مقال له علاقة: فرصة مميزة: منحة 8000 دينار للطلاب العراقيين لمستقبل تعليمي أفضل
تشمل العدالة الانتقالية، وفقاً للمركز، إدخال إصلاحات في الأنظمة القانونية والسياسية والمؤسسات التي تحكم المجتمع. كما تهدف إلى كشف الحقيقة حول ما حدث وأسبابه، وتحديد مصير المعتقلين أو المخفيين قسراً.
تشكيل الهيئة: دعوة للإحباط
أضاف الباحث زيادة أن العملية المفترض اتباعها يجب أن تكون تشاورية، حيث ينبغي أن يتم التشاور بشأن الأسماء بشكل موسع، مع احترام الأشخاص المعينين. كما يرى ضرورة تضمين خبراء في مجال العدالة الانتقالية، بجانب إشراك منظمات عائلات الضحايا ومؤسسات المجتمع المدني بشكل فعّال في عملية الاختيار مما يؤدي إلى تعيين أعضاء الهيئة.
بحسب زيادة، فإن تعيين شخص “بغض النظر عن خلفيته الشخصية” من دون خبرة في العدالة الانتقالية كان محبطًا للكثيرين من المشاركين في هذا الميدان. كما أشار منظمة “هيومن رايتس ووتش” إلى أن مرسوم إنشاء “هيئة العدالة الانتقالية” يقتصر فقط على الجرائم التي ارتكبها نظام الرئيس السابق بشار الأسد، مُستبعدًا ضحايا الانتهاكات التي ارتكبتها الجهات غير الحكومية.
وفي بيان نشرته في 20 مايو، أكدت المنظمة أن المرسوم لم يُحدد كيفية إشراك الضحايا بشكل فعّال في تشكيل عمل اللجنة أو المشاركة فيه، أو إذا كان ذلك سيتم.
وفقاً للمرسوم “20”، يرأس “هيئة العدالة الانتقالية” عبد الباسط عبد اللطيف، وهو الأمين العام السابق لـ”الائتلاف الوطني السوري”، وقد حصل على إجازة في الحقوق من جامعة “حلب” عام 1986، وشغل سابقًا منصب نائب رئيس “لجنة الحج العليا السورية” ورئاسة المكتب السياسي لـ”جيش أسود الشرقية”.
شراكة مع المجتمع المدني
في كلمة مصورة نشرها حساب “هيئة العدالة الانتقالية” الرسمي على “فيس بوك” في 23 مايو، أكد عبد الباسط عبد اللطيف أن “الهيئة ستعتمد خارطة طريق عملية واضحة المراحل، مبنية على أسس واقعية تأخذ بعين الاعتبار السياق السوري وخصوصيته. كما ستُطور خطة وطنية للتوعية بمفهوم العدالة الانتقالية، ومنصات إلكترونية لتلقي الشكاوى، وآليات للتواصل مع المجتمع، بالإضافة إلى تقارير دورية موثوقة توثّق ما تم إنجازه.”
ستعمل الهيئة، خلال المهلة المحددة بـ30 يوماً، على “تشكيل فريق عمل يضم ممثلين عن الضحايا، وخبراء قانونيين، واختصاصيين في الأدلة الجنائية والبحث الجنائي، وممثلين عن منظمات المجتمع المدني. كما ستستعين بمجلس استشاري يمثل الضحايا، يرافق عمل الهيئة في جميع مراحله، ويساعد في وضع نظامها الداخلي.”
تعهد عبد اللطيف بالتزامه الكامل بتنفيذ هذا التكليف لتحقيق تطلعات الشعب السوري بكل مكوناته، عبر الأمور التالية:
- كشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب بها النظام البائد.
- مساءلة ومحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات بالتعاون مع الجهات المعنية.
- جبر الأضرار التي لحقت بالضحايا.
- ترسيخ مبدأ عدم التكرار وتعزيز المصالحة الوطنية.
تتحمل “هيئة العدالة الانتقالية” اليوم “أمانة كبيرة”، كما أشار عبد اللطيف، تتمثل في “مراقبة ومحاسبة مرتكبي الجرائم، وإنصاف الضحايا وذويهم، والتعامل مع آثار الانتهاكات الممنهجة بطرق تسهم في ترسيخ العدالة ومنع تكرار ما حدث، وتأسيس مصالحة وطنية طويلة الأمد قائمة على سيادة القانون وتعزيز ثقة السوريين بنظام العدالة، وصولاً إلى سلام دائم ونهضة وطنية شاملة.”
أكد رئيس هيئة العدالة الانتقالية أن العدالة في سوريا “لن تكون انتقامية”، بل ستكون قائمة على الكشف عن الحقيقة، والمساءلة، ومنع الإفلات من العقاب، وترسيخ سيادة القانون.
هل تتحقق التطلعات؟
برأي الباحث في مركز “الحوار السوري” نورس العبد الله، فإن أي خطوة نحو تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا تمثل “أمرًا إيجابيًا، وتتلاقى مع تطلعات السوريين والالتزامات القانونية والأخلاقية للسلطة الانتقالية”. واعتبرها خطوة مهمة وضرورية.
يرى العبد الله أن المسار الإجرائي لتشكيل الهيئة لم يكن “الأفضل ضمن الخيارات المتاحة إلا بمقياس الزمن”، وأشار إلى أنه تم التشكيل دون إجراء مشاورات واسعة ومن خلال “مرسوم موجز” بدلاً من قانون يمر بمراحل متعددة ويحتوي على قواعد شاملة للإطار المتفق عليه للعدالة الانتقالية في سوريا.
شوف كمان: زيادة الحد الأدنى للأجور في المغرب تفرح الناس وتدخل البهجة إلى قلوبهم
لا تعارض مع الإعلان الدستوري
تجدر الإشارة إلى أن طريقة تشكيل الهيئة الحالية لا تتعارض مع نص المادة “49” من الإعلان الدستوري، وفقًا لرأى العبد الله.
تتعلق السلبيات، كما يرى العبد الله، بـ”استمرار الغموض حول كل ما يخُص الهيئة، سواء من حيث الاختصاص والصلاحيات والبنية والتكوين، بالإضافة لطريقة اختيار الأعضاء”. كذلك، جعلت المشاورات الوطنية بعد تشكيل الهيئة، وليس قبلها.
لذا، يعتقد الباحث السوري أن الإشكالية الرئيسية تكمن في “النص الدستوري المؤسس للعدالة الانتقالية في سوريا، والذي كان يجب أن يتم الحديث عنه قبل أي إجراء آخر”.
التشاور قبل التشكيل وليس بعده
ويؤكد الباحث في مركز “الحوار السوري” أن الإشكالية تعود إلى الإعلان الدستوري نفسه وتحديداً المادة “49”. منذ ذلك الحين، كان من الضروري إجراء تشاور مع منظمات المجتمع المدني وذوي الضحايا كعملية سابقة لتأسيس الهيئة، وليس لاحقة لها. وقد شهدت تلك الفترة ترحيبًا أكثر من التحليل، حتى من بعض الروابط والمنظمات.
يدعو العبد الله إلى “استدراك الوضع”، حيث يجب أن يكون بين أعضاء الهيئة ناشطون مدنيون وممثلون عن ذوي الضحايا. كما يجب أن نشهد مشاورات جدية حاليًا بخطة واضحة قبل إعداد النظام الداخلي للهيئة، مما سيساهم في تلافي الثغرات السابقة.
ولا يعتقد الباحث نورس العبد الله أن التوجه العام للسلطة سيتجاهل التشاركية في مسارات العدالة الانتقالية، مؤكدًا على أهمية دور المجتمع المدني، والمنظمات الحقوقية، ومراكز الدراسات وروابط الضحايا.
توصيات
يوصي الباحث السوري بثلاث نقاط رئيسية للعمل عليها حاليًا:
أولاً: ضرورة إعلان خطة سريعة للمشاورات حول اختيار الأعضاء في الهيئة ومعايير تركز على النزاهة والكفاءة والتنوع، لضمان شرعية ومصداقية الهيئة وكسب ثقة الجمهور، مع ضرورة أن لا يقل عدد الأعضاء عن 14 عضوًا من مختلف الاختصاصات والخلفيات، مع مراعاة وجود النساء في الهيئة لضمان تمثيل قضاياهن.
ثانيًا: أهمية إجراء جلسات حوارية مركزة مع خبراء وتوفير جلسات مفتوحة للاستماع إلى آراء ذوي الضحايا، من أجل الحصول على مدخلات مهمة لإعداد النظام الداخلي.
ثالثًا: التركيز على صلاحيات الهيئة التي تضمن نجاحها في تحقيق أهدافها وتوفير ضمانات لحصانة أعضائها واستقلالهم، نظراً لتحديات المهمة وضغوطاتها المتعددة.